(الهيئة المصرية العامة للكتاب)

(( البيت ))

متى بدا ذلك … لا أحد يعلم .. تجمعت أشلائي .. صخرة .. صخرة ، تستكين فوق بعضها البعض بألفة والتحام ويزيد ذلك الالتحام جص مصهور من (( اكوار )) وجدت له وهذا الجص يتكور بأيدي سمراء ومعروقة ويلحم الصخور الناتئة ببعضها لتأخذ شكلا نهائيا بمهارة وخفة لتنمو جدراني كفروع شجرة متوحشة . الجدار يرتفع ليعزل جزأً من تلك الارض عن العالم ، جدراني الاربعة ، جهاتي الاربع تحدد وجودي ازليتي ، إنها ترتفع .. ترتفع ، الصخور من اسفل الجدار قنابر بلورية تقذف من أيدي العمال المهرة لتنفجر حيوات جديدة لم تدخل الزمن بعد .. ندوب هنا وهناك .. ثقوب توزعت على أجزائي كمساكن أليفة للعقارب والافاعي والعناكب .. فاس حديدية زرعت في إحدى الزوايا ، ساطور مثلوم غاب في الجص بين طيات الصخور ، ملعقة دستها يد صبي بعيدا عن أعين الاخرين .
اكتمل السقف الكبير الذي يغطي جزأً من (( الحوش )) والغرفتين واختفت أشعة الشمس من أعلى ارضيتيهما لامد قد يطوي طلوع وغروب لا يحصى وهو بعيد .. كانت الصخور تأتيني محملة على ظهور حمير وبغال مطأطة الرؤوس تتهادى في سيرها الثقيل .. صخور .. صخور .. قديمة قدم الارض ، أم الجميع ، الكائنات بدرجاتها بداً بصمت المقابر وانتهاءً بصرخة الرضيع الاولى ، هي زرع الجميع ونبتهم ومن ثم مهبطهم نحو نسيجها الابدي ، صخور اُجتُثث من ضلع قمة عصية أو ربما سورا لقلعة حصينة بناها قائد استبدل دمه بدم ازرق معلنا عن شجرة لاصالة عائلة كانت .. قصر فخم ، منيف بناه مهراجا لتاجا أبدية ربما عتق الايام في ذاكرة الناس تنفخ فيها روح القداسة والالوهية فتعبد .. جزء من مذبح سالت عليه دماء العذراوات وسط دمدمات الكهنة وحاملي البخور وهم يدورون حول أعمدة رخامية في ليلة قمرية .. سوراً لمدينة تكسرت عليه رماح الاعداء .. سداً منيعا يحجز مياه نهر خوفا من هيجانه .. أو أتت مفصولة من جسد صخرة بمعول سجين يحلم بتحول ( المقلع ) إلى فردوس صخري يحول سجاني العالم الى تماثيل صخرية تتفتت كل يوم بمعاول تضرب بقوة وتصميم دون أيدي سجينة أليأس والقنوط لتعود في الليل كما كانت تماثيل صخرية بائسة وهكذا … في النهاية أعلن عن وجودي . من بصيص جمرة نبتت في باحتي ولدت تلك الالفة وتحركت على وجوههم جميعا ، رجال / شيوخ / عواجيز / مجذوبين / أطفال وصبيان صفر الوجوه / فتيات صغيرات بشعر أشعث تلتقي ملامحهم بحيط ابدي يبدأ ولاينتهي … زاد توقد الجمرة ، ودخل الاخرون تباعا ، الصندلية / القريولة( ) السيسم / البريمز /الفرش المجدولة والمنسوجة من شعر الماعز الجبلي الخشن / بسط وزوألي من صوف اكباش شعر ، استقرت في الغرفتين لتمنع رطوبة ليألي ضيف العجائز والاساطير .
من رحم تلك الجمرة ، تلوى صاعدا خيط هلامي يشع .. اخذ يتوسع ويملا الجدران والوجوه والقلوب ويبدأ بصهرها فتعيد رسم هياكلها المرنة .. بعد أن حولها الصهر الى كتلة (( حاطومية )) واحدة .



(( ولادة ))

استيقظ رعاة الماشية ذات صباح وهم على تلك الاكمة المطلة على نهر دجلة من الجهة الغربية ، من حافته المنحدرة بشدة قرب اطلال لآثار لا يعرفون اصلها . فوجدوا سبعة بيوت من الحلان و(الفغش) متلاحمة مع بعضها.. تساءل الرعاة من اين اتت .! متى بنيت.؟؟ لقد جاءوا الى هذا المكان مساءً ولم تكن موجودة ايعقل هذا.؟؟ في ليلة تبنى سبع بيوت وتخرج من جوف الارض كفطر في غابة.
انهم يعرفون هذه الارض جيدا وقد خبروها بحكم (تسيدهم) (للنجعة).. هذه الحركة الضاربة في اعماق القرون والتي كانت الجبال تشارك بواسطتها السهول والمدن السفلى ، النزاعات والمغانم في الوقت نفسه.. هذا الذهاب والاياب لقطعان الضأن والماعز بين المراعي الصيفية في الهضاب العالية ومراعي السهول التي تظل معشوشبة حتى فصل الشتاء . تلك الانهار من اغنام وابقار صعودا ونزولا كل عام بين الجبال والسهول ..
في اليوم التالي زاد عدد البيوت وكانت زرقة الفغش واضحة من بعيد وسط ذلك التموج الاخضر المزركش باحمرار (الشّقّيق) واصفرار (البيبون) التي تزدان بها الهضبة ما بين آذار وحزيران وفي سنين تعبر نحو تموز وآب . احس الرعاة بالخوف ولم يقتربوا من البيوت وتظاهروا بعدم الانتباه اليها خصوصا بعد ما اخبرهم احد الرعاة عن ذلك الشيخ الذي مر بهم في ليلة نيسانية وقال لهم ان هذه التلة( ) تعيش اشهر الحمل الاخيرة وسيحين مخاضها قريبا.. ستلد (موصليا موصل) ابنتها الحسناء ..



موعد الوصية، لقد آن أوان تنفيذها لزام علي ذلك. اليوم سأبدأ الرحلة.. واذهب بعيدا..بعيدا.. الى ذلك اليوم الذي توقف هناك، حط راحلته وعبر الزمن.. في ذاكرتي أيام منذ متى.. لا ادري، وهي هكذا جليس خيالي.. في كل الليالي التي أعقبتها.. فهي لم تكن كوابيسا.. او أحلاما.. بل هي هكذا معي.. دائما، لم تكن وليدة ذاكرة عنيدة، بل هي صبغة جديدة دخلت دمي وتلفعت به، ليست بالمخيفة او المزعجة، او الأليمة، بل كانت لكثر ما توعدتها قلب ظلآمي .. ولكني وقتها خلت إنها ستغادرني حالما تخبو جمرة شمس ذاك النهار.. آخر نهارات الحرب.. ثم يأتي ليل ليعقبه نهار ليس كمثل قبله أبدا.. لكنها في الواقع لم تكن كذلك أبدا.. وفيما بعد.. في الأشهر الاولى التي أعقبت ذلك النهار.. كانت لصيقة بروحي، تسبقني نحو الصباح وتصافح صديقي قبلي وتقبل ولدي قبلي وتختار هندامي وطريقة خروجي وجلوسي مع الأهل والعشيرة.. ثم قبل ان أغادرهم مع فرسي ( مريم ) لتأمل الغروب تسبقني وبفرشاتها وألوانها تبدأ بصبغ الغروب بلون أزيز الرصاص وانفلاق القنابل.. لكن مرواح السنين كان قويا عليها حتى أحالتها شجرة عجفاء بعد ان تساقطت معظم أوراق شجرة الذاكرة العجوز ورقة، ورقة بعدد أيام النسيان ذلك السيال الزمني الذي يعلب الثواني والدقائق والساعات والأيام تلك كلها الى أعوام وقرون وأجيال ودهور وعصور تأخذ روحها من تلك الجزئيات الزمنية التي لولاها ما حدث هذا المسمى تاريخ.. ألان وأنا أقف مشاهدا للوجه الذي صار بعد عشرين عاما منذ ذلك اليوم ما الذي تبقى منه سوى النكهة.. نكهة ذلك اليوم.. وجوه المقاتلين وملامحهم التي ترسمها كل معركة على حدة .. وغمامة ( الطوز ) والتراب الابيض ودخان القنابل ورائحة البارود والاحتراق التي تملأ المسافات والفراغات بين الأجساد والأجساد، والأجساد والآليات والمعدات الحربية من دبابات وهاونات ومدافع وراجمات وعجلات صغيرة وكبيرة.. إنها ملامح واحدة دائما ممهورة بدمغة، ان تكون بطلا تختم بها الجباه عند اول اطلاقة مدفع..هكذا هي..كتبت عليك البطولة، لذلك فهم سواء جميعا كأسنان المشط في مدرسة الموت والبطولة حيث ان من الممكن تعلم الموت وذلك ككل الاشياء العظيمة التي تبدأ في لحظة غير معلومة لتنتهي في موعد يحدده قدرها الخاص..هكذا بدأت الدرس الاول في كيفية تعلم لغة الموت وأنت تفهم ما يعنيه هذا وكان ذلك عام 1982 العام الثاني للحرب. ألان وبعد هذه السنوات سافتح بوابة ذلك العصر واخذ هما معي. صحت فيهما. جاءني نواف ودشداشته البيضاء مع سترته السبورت وكوفيته الحمراء والتي جلبتها له من سوريا فيما وقف اوميد وراءه بزيه الكردي كان وسيما كأبيه لكنه افتقر لخصلتين تمتع بهما أباه وهما القصر والروح المرحة. لقد بلغ العشرين الآن..هذا هو الوقت






برمجة وتصميم : محمد عبد قاسم
Free Web Hosting