القِران العاشر (موقع الكاتب حسين رحيم)

 

 

 

 

صبي الأحلام

 

 

 

 لم يكن بإمكان إبراهيم فهمَ كل ما يجري حوله بسهولة وسرعة, بل ربما لم يكن يعنيه ذلك أو يعلمه, فهو يهتم دوماً بما يعلمه فقط ولا يفكر بمجهول الأمور. وما يعلمه هو تجنب الأماكن البعيدة عن بيتهم. لأنه قد يجدهم هناك, فقد يكونون متراصين لصق جدار بيت حمادي أبو اللبلبي, أو يلعبون في الساحة الترابية, أمام بيوت الموظفين, سيتركون اللعب حتماً ويتجهون إليه وهم يرددون الكلمات إياها, التي ما انفك يسمعها من ترك الذهاب معهم إلى النهر.

كل صباح هناك موعد معها.. كل شيء يجري سريعاً لحين الوصول , لأخذ قطعة خبز من القدر, المشي السريع والهرولة, أحياناً مع حازم ابن خالته "رسلية".. قبيل الاقتراب يتعبق أنفه بتلك الرائحة.. يحس جسده يطوف في فضائها حراً من صوت أمه وتعليقات أشقائه الكبار, يصل المكان.. يتأمله للمرة الألف, يُعلل للمرة الألف أيضاً.. منذ أن أرشده إليها حازم بن رسلية قبل سنتين, عندما وقف ثم دار حول ذلك المنحنى حتى وصل الصخرة التي غرز نصفها فيها ونصفها الآخر خارجاً, وعندما تابع ذلك المجرى الرفيع الأخضر, الذي يغذيها... والذي لم يرغب بمعرفته. رغم تأكده مرة حين تابع المجرى عبر الوادي صعوداً إلى حيث وجد فتحةً كبيرةً لا تتناسب وكميّة الماء الخارج. تابع المنهول بخياله حيث كان مدفوناً. فاستنتج أن مصدره بيوت موظفي الشركة حيث هز رأسه قائلاً:

مؤكد أنه صنبور مكسور.

عندما يصبح أمامها يفك حزامه, يملص جسده النحيف من (الدشداشة) يربط سرواله الداخلي بالحزام وينزل, فإن وجد أحداً قد سبقه, يتحرك بهدوء, يبتعد إلى زاوية يعرفها ويجعل ظهره مواجهاً لذلك المجرى ذي القاع الأبيض والحافة الصفراء بسبب لون الطين هناك من تراكم مادة اليوريا... يغطس حتى حنكه مراقباً الحشرات التي تتزلج بخفة ورشاقة على سطحها, يملأ فمه بالماء ذي الطعم اللاذع ويرشه بعيداً.. فيما يحافظ حازم على المسافة بينهما ويراقبه بدقة ويقلده بكل صدق وإخلاص.

أما إذا لم يجد أحداً... يقفز إلى الماء مطلقاً صيحة يعتقدها قوية جداً, يتشبث بالصخرة صاعداً ثم يقفز ويغوص في عمق يعتقده عميقاً جداً وهكذا حتى يمتد ظلال التلّة القريبة إلى البركة, مسامات جسده النحيل الخالي من الشعر حبيبات صغيرة تقرص جسده كأبر لاسعةً يسمع صوت حازم- غابت الشمس.

يخرج, ابراهيم بسرعة من الماء.. يرتدي دشداشته. يخلع سرواله الداخلي ويعصره ثم يرتديه مجدداً وعيناه تجوسان خائفتين.

* * * *

في أثناء عودتهما يتجنبان المرور قرب بيوت الموظفين أو "الفورمنية" كما هو شائع هناك. ينظر إلى الجهة المعاكسة, أو يتظاهر بشم يده أكثر من مرة وهو متعجب من الرائحة التي لا يحس بها في أثناء السباحة.

رآه, شابٌ مرة وهو قادم من البركة وكان يقف بتكاسل أمام أحدتلك الأبواب الفخمة.. ضحك الشاب.. طأطأ ابراهيم رأسه معجلاً خطاه وأنفه تدغدغه تلك الروائح اللذيذة من وراء الأبواب والنوافذ الفخمة. لكنه يعرف لو تجاوز هذا الشاب نظرة السخرية منه, فلن يستطيع تجاوز أولاد (الحملة) وتلك الأغنية أو اللازمة التي يبدأونها مع التصفيق مرددين "خبرة, البزّون.. بوالة الفورمنيه"

مقترباً من حازم ومقترباً من البيت, يدنو وجه أمه الحزين, الشاكي دوماً من حملهم الثقيل عليها... عند دخوله المنزل يتجه نحو الغرفة  التي في نهاية باحة الدار المبني على الطراز الشرقي.. حيث دولابه الخشبي يخرج صوراً صغيرة لممثلين وممثلات كباراً وصغاراً, أجانب وعرباً وهنوداً وجوه أليفة.. ووجوه تثير النفور عنده.. ينثر الصور.. يرتبها وفق درجات, ضمن سلّم هرمي يؤمن به. عندما ينتهي يشعر بارتياح...

حسناً ها قد وضعنا كلاً في محلهْ.. لكنه يعرف أن ذلك لا يفيد وأن عليه غسل وجهه ويديه وقدميه لطرد الرائحة وإلا فإن ذلك لن ينتهي.. سيكون الفصل الأخير لمسرحية كل يوم مع أشقائه الثلاثة الأكبر منه... ستأتيه لطمة أو لطمتان على رأسه مع تعليق بذيء تختتم بضحكة جماعية.

ظهر اليوم التالي, يتجه إلى بيت حازم بن رسليه الخبازة, يصيح عليه وفمه قريب من أكرة الباب.

- حازم.. حازم... يطل حازم من السطح, يؤشر له برأسه مبتسماً ثم ينزل مسرعاً. بصمت يفتح الباب.

عند الذهاب وعند العودة, يدير إبراهيم رأسه إلى الناحية الأخرى حال اقترابه من بيوت الفورمنية, ورائحة الأكل اللذيذ تدغدغ أنفه ذلك الأكل الذي كم ود معرفة محتواه.. عليه أن يكون مستعداً عند العودة بأن يصمت حانياً رأسه, إنها ساعة واحدة لا أكثر ثم يعود الهدوء إلى البيت, فهناك أمور كثيرة أهم منه تنتظر حلولاً, فهذه الدور المتراصة بانتظام المتشابهة بالبناء واللون.. هنالك حالتان تتوهجان بين ظهرانيها الحيوية وهي عودة العمال المنهوكي القوى من المعمل ويوم استلام الراتب, ذلك اليوم الذي يعود فيه الحديث عن المشاريع المؤجلة والديوان والمشتريات التي تؤجل عموماً إلى الراتب القادم. لكن ما يهم إبراهيم هو حصوله على درهم يتناثر بين الدكاكين بسهولة حال وصوله السوق.. يملأ جيب "دشداشته" الوحيد بقطع الحلوى التي تنتقل إلى داخل بطنه قبل وصوله البيت.. إنه يعرف أنهم يحسون به في هذا اليوم فقط. لذلك يقوم بارتداء الدشداشة البيضاء المزينة بنجوم مذهبة  حصل عليها في أثناء ختانه, لذلك يقوم بارتداء الدشداشة البيضاء التي حصل عليها في العيد الصغير, ويذهب قبالة بيت شاهه الأرملة التي نظرت إليه تلك النظرة وهي تدخل أولادها البيت. إنه لن ينسى تلك النظرة الحزينة ولا بعد مئة عام وابتعد حتى عن المرور أمام بيتها.

في يوم علقت دشداشته بمسمار نائي في عربة حمادي أبو اللبلبي, تمزق جزء كبير منها وهو يحاول تخليصها, ركض باكياً إلى البيت, تبعها خوفاً من غضب أشقائه, لكن ما حصل أصابه بخيبة أمل, رغم أن حمادي أبو اللبلبي أعطاه ماعون لبلبي مليء حتى جوانبه, لدرجة تساقطت حبات من الحمص منه, وفم مفتوح على اتساعه يحاول جعله ضحكاً وهو يرى أشقاء إبراهيم يقتربون منه بوجوه خالية من التعبير, لكن لم يحصل ما توقعه, فقد تخطوه مع وجهه المتحجر المليء بالأخاديد كتمثال تعرض لعوامل التعرية وهو يحرك قدميه المستعرضتين, المليئتين بنتوآت تنوء بهما بقايا "شحاطه", مبتعداً بهدوء عنه, غير مصدق.

عند وصول الخبر لأبيه, ضحك كعادته, وأعاد على مسمعهم تلك القصة.. كيف تفاجأ حمادي بوجود غريب مع زوجته في الغرفة, وكيف أرداها قتيلة بضربة واحدة من قدمه الرهيب على صدرها.!

* * * *

الشتاء يأتي.. يكتئب إبراهيم, النهوض المبكر, صراخ معلم الحساب »افتح يدك«, ذلك الألم الفظيع على ظاهر كفه.. يتكرر الضرب وإبراهيم يعد, منتظراً الرقم ثمانية التي ستتحول إلى بطولة أمام حازم.

- ثمانية عصي على كفي ولم أبكِ...

تتشابه اللحظات والدقائق والساعات, حتى يأتي المساء وكأن لم يكن هناك نهار بل اتصال مباشر بين مساء ومساء. البرد القارس يمنعه من الخروج, يتلهى بالصور, يتمتم ببعض الكلمات التي لو تسمعها أُمه ستلطم خدها.

يأتيه صوت أمه من المطبخ

- ابني لا تجعل الصورَ تلهيك... يتجهّم وجه معلم الحساب.

- افتح يديك...

تدخل أنفه فجأة رائحة اللحم المحموس, يقوم مسرعاً إلى القدر ويخرج قطعة خبز منه, بسرعة يتجه إلى المطبخ, يقف قرب أمه ناظراً إليها منتظراً أن تقول

- هات :

عندها تمتد ذراعه إلى أمه قابضة على قطعة الخبز فتخرج له قطعة لحم تلفها به... يخرج راكضاً وصوت أمه يزيده سرعة:

لا تبتعد, ابني أبوك قادم.

* * * *

كان يعرف أن أباه - يحبه, تلك النظرة الحالمة والضحكة المجلجلة المتوازنة مع كرشه صعوداً وهبوطاً. لا يضربه, بل هناك سباب وشتائم يتطاير من بين شفتيه تجعله يكف لحظة ثم يعاود ثانية وهو يضحك.

كل أب فيه شيء ما يخيف به في لحظة غضب أو حزن.. إلا أباه. لكن تلك الليلة فقط انبجس شيء جعله يتجنب النوم في غرفة والديه, حتى لو تمرض, في هذه الحالة فقط تتغير معاملتهم له, يكون متدثراً, دائماً يأتون بالأكل إليه, لكن ما يغيظه أنه لا يحس باللذة, فقط, دفء يد أمه على جبهته الذي يسره أكثر, رخامة صوتها وهي تتحدث عن ضعفه وأثره بالبرد بمبالغة محبّبة, والآن لم يعد يحس بأهمية والحاح الرغبة معهما أو كما قالت له أمه بعد أن مدت يدها بين ساقيه:

- وي.. صرت رجلاً. ولم تعد تأخذه معها إلى حمام النساء.

- صرتُ رجلاً... كثيراً ما يسمعها من الكبار, لكنه ينساها بسرعة حتى عندما تقال له, كان يحني رأسه مبتسماً بخجل.. إنه لا يملك أن يفعل شيئاً آخر. لأنه لا يفهم ما يريدون, بل لا يريد أن يفهم.. لكنهم لم يهتموا بذلك.. بل استعد لأن يسمعها من أي شخص.

في يوم أمسك بمرآة صغيرة ونظر إلى وجهه طويلاً.. لقد أصبح يضجر من تلك الكلمة. بل ود, لوصرخ بوجوههم.. لا أريد أن تقولوا ذلك أبداً.. أبداً.

تلك العجوز التي تسبقها رائحتها, لم تبتسم بوجهه, رفعت أصبعها بوجهه:

- لا تمش مع الأكبر منك.. عند خروجها من البيت.. الح عليهم. هل ستأتي مرة أخرى.. كان يود التأكيد فقط.. أجابت أمه.

- إنها امرأة مسكينة... لم تتزوج حتى الآن.

لكن حازم بن رسلية الخبازة.. اخبره بخوف:

- إن النسوة أمثالها إن نِمْنَ مع الرجل فإنهن سيقتلنه... وبصوت هامس قرّب وجهه:

- إن فيهن سمٌ زعاف.

أغمض عينيه.. رآهم يحملونه إليها, وصوت الغناء والهلاهل يملأ أذنيه, تنام معه في سرير واحد, تقترب من وجهه, ثم تحضنه وتفرّغ سمها في جسده النحيف وصوت شقيقه الأكبر يرن صداه في جسده وهو يضحك:

- سنزوجك إياها.

عندما زارتهم مرة أخرى.. أخرجت من جيبها قبضة مملوءة بالحمص والزبيب, جرته إليها, ووضعت الحمص والزبيب في جيبه بقوة هزت جسده, كأبر نفاذه دخلت أنفه وفمها يبتسم كأي كائن خبيث ينتظر فرصة الانقضاض عليه, انسحب مسرعاً من البيت وضحكات الموجودين وراءه تزيده سرعة في الابتعاد.

يذهب إلى حازم, يصعد إلى السطح معه.. ينظران إلى خالته رسلية وهي تخبز, يكون لتصفيق يديها على العجين إيقاع مكتوم ينسجم مع صوته وهو يحدث حازم عن البركة وعن المرأة العجوز, وكيف رمى الحمص والزبيب في المزبلة ولتأكيد كلامه ينهض ويؤشر بيده,انظر.. هناك.. أما حازم فكان صامتاً كعادته.. لا يبدي رأياً بشيء, بل هو لا يقول لا أو نعم وإن أعطى رأياً فهو نقل عن شخص آخر, لذلك يكون إبراهيم صريحاً معه لدرجة الملل. يبقى إبراهيم يتحدث وحازم ينظر إليه صامتاً. وكلما زاد حازم من صمته, زاد اإبراهيم من إسهابه, فيأخذ بالتحدث, كيف عبر الشط مرة سباحة لوحده وكيف تشاجر مع شرطي وضربه على صدره كما فعل حجاوي أبو اللبلبي, وكيف استطاع تجويع نفسه لمدة ثلاثة أيام وحازم ينظر إليه.

 

* * * *

تكون بوادر اقتراب الصيف قد ظهرت في المدرسة من خلال ارتفاع الحرارة في الصف.. مراجعة الدروس من أول الكتاب, التهيؤ للامتحانات النهائية, ارتداء القميص الأبيض, بدلاً من مضايقة الجاكتة القصيرة الأكمام, وعندما يرسله معلم التربية الدينية إلى المدير لكونه ضحك أكثر من مرة في الصف, وعندما يدخل يكون المدير متكئاً إلى الوراء ويضحك مع أحد الجالسين معه, وقد خلع جاكتته ورفع أكمامه, فبدلاً من أن ينهض ماسكاً العصا بيده وصارخاً عليه كما في أول السنة يبقي على وضعه ثم ينظر إليه صامتاً وبهدوء تخرج الكلمة من فمه.

كفى بُني انتهت السنة... يا لها من كلمة لذيدة ومريحة ويتناول العصا بهدوء. رغم أن اإبراهيم عندما يخرج من غرفة المدير تكون كفّاه تحت إبطيه وهو يئن من الألم, يكون سعيداً جداً لهذا الإقرار من المدير وهو يلتفت يمنة ويسرة بحثاً عن أحد يراه ويحاول تصنع الابتسام.

عند انتهاء آخر امتحان, يخرج من المدرسة ضاحكاً, يرمي كتابه على أول صبي يراه ضارباً عرض الحائط توصيات حمادي أبو اللبلبي بإعطائه الكتب مقابل ماعون لبلبي كبير.

في أول صباح ينجز كل شيء بسرعة وبسرعة رهيبة تجعل أمه تضرب خدها وهي تراه خارجاً بعجالة.

- آه.. من البركة.

إنه اليوم الأول, الماء بارد وعكر...  ويتأمل فحسب.. لم يشعر سوى بالغبن.. لمَ يؤذونه دائماً, ما لهم به.. أمه التي أخذته أمام (أهل المحلة وهي تندب حظها وحمادي أبو اللبلبي يضيق ما بين عينيه بتصنع).

- عجيب أمرك يا ولد... كيف تسبح بهذه القذارة.

فترد أمه واجمة :

الحظ والبخت. وعندما أخذه شقيقه الكبير ليريه مصدر المياه. أجاب بهدوء أنه يعرف ذلك, انفجر أخوه بالسباب والشتائم, لكن ابراهيم أخبره بأن الماء الذي يأتي صافياً عدا رائحته التي لا تضر, ما كان لأخيه إلا أن بصق على الأرض وسار مبتعداً.

 

* * * *

ما كان يظن بأن صورة واحدة ستبدل تعابير وجوه الجميع حوله ويحدث ما يحدث, فقد كان معها في الغرفة عندما دخل أخوها الصغير ورآهما.

خرج راكضاً من البيت صائحاً :

- إبراهيم يحتضن خالدة... تغير كل شيء, لم يفد حلفه وصراخه أمام صفعات أشقائه الكبار;

أخذت الصورة فقط منها. عند المساء. وهو محتبس في غرفته سمع صوت أبيها يقول:

أُريد رؤيته فقط.. هرول واختبأ تحت سريره, لكن أعقب ذلك صمت ودوت صفعة ثم صفعة أخرى وارتطام باب وأقدام تهرول ثم عويل أمه وشتائم أشقائه.

حُرِم من الخروج لمدة ليست قليلة.. كان يريد أن ينسى قليلاً... أن ينسى الآخرون ما حدث, لكن أولاد الزقاق كانوا يكمنون له عند منعطف الزقاق ويحصرونه وسطهم ثم يقربون وجوههم منه هامسين.

- ها.. قل.. ماذا فعلت مع خالدة... أما حازم كعادته لم يسأل لكن عند استحمامهما في البركة قال وهو يهم بالقفز من على الصخرة.

يقول أي.. إنّ أبا خالدة أقسم أن يقتلك.. لولا أشقاؤك الذين خاف منهم.

تلك الليلة.. رأى نفسه أمام أبو خالدة الذي مد يدين قويتين وطوق عنقه وأخذ يضغط عليه بشدة.. يستيقظ من نومه مفزوعاً

لكنه عندما كان أمام بيتها.. ضحكت وأقفلت الباب وراءها.. تمنى لو كان حازم موجوداً لقال له أشياء كثيرة وردت علي ذهنه, لا يعرف لماذا, هل هي متفقة معهم, لم ابتسمت بوجهه, كم من مرة لعبا سوية في غرفته... كثيراً ما حاولت سرقة الصور منه فيأخذها منها بقوة وتعود لتسرقها منه وهي تضحك وتضحك, ويزداد ضحكها حين يمسكها ويوقعها أرضاً وهو خائف أن تبكي.. يبقى إحساسه مشدوداً إلى تلك اللحظة لغاية خروجه من البركة- يتجه الحظ إلى دولابه الخشبي, يأتيه تعليق من أحد أشقائه:

تباً لها من رائحة.

يخرج صور الممثلين, يحدثهم, يلقي إليهم بأوامره, يرتبهم حسب مراتب ودرجات يعرفها, يستمر بهذا الترتيب ببطء وروية لتأكده إنها لن تأتي وتبعثر الصور.

عندما مرَّ قرب تنور أم حازم, أعطته رغيفاً, أخذه وصعد إلى السطح والرغيف الحار يتحرك من يد إلى يد. قرّر أن يحدثه عن الحلم الذي رآه أكثر من مرة, أخذ يتكلم بحماس واضطراب, كيف رأى أشقاءه الثلاثة وقد تحولوا إلى جراء صغيرة تهز أذنابها مسرورة به وبيده قطعة خبز يحاول تقسيمها فيما بينهم وبين أبويه اللذين تحولا إلى كلبين هرمين وأخيراً يأكلها هو. ليجد نفسه في البركة, وبه ظمأ شديد يشرب من البركة.. ويشرب ويشرب.. فلا يحس بالارتواء.

سكت ثم أردف بعد لحظة:

- وقد كان معي في البركة, استاذ قاسم معلم الحساب والمدير و.. حمادي أبو اللبلبي و.. وخالدة و.. سأله حازم باندهاش:

- ماذا كانوا يفعلون. أجابه بثقة العارف:

يغسلون أجسادهم من الأوساخ والروائح الكريهة.. أما حازم فانفجر ضاحكاً قائلاً:

كيف تحوِّل أهلك إلى كلاب?

 

* * * *

قرر ابراهيم أن لا يخبر حازم بن رسليه الخبازة عن أحلامه مستقبلا, لذا يكون من المناسب أن يحتفظ بها في رأسه, خصوصاً عندما يستيقظ صباحاً ويأخذ خياله بالتحليق, لأن يكون بطلاً في السباحة أو يأخذ عربة حمادي أبو اللبلبي عنوة ويقوم بتوزيع اللبلبي مجاناً على أبناء المحلة أو يأتي إليه أبو خالدة ليعتذر له ويهديه دشداشة جديدة, أو يذهب ليأتي بزوج شاهه من مكان بعيد, مدير المدرسة وأستاذ قاسم يعطيانه عصيهما ليكسرهما وجميع أهل المحلة يقتربون منه ليقبّلوه. يحملونه على الأكتاف وهم يهتفون شاكرين اللّه عز وجل على منحهم بطلاً شجاعاً كهذا. ينهض من السرير, يخرج من البيت راكضاً, يضحك كثيراً. لا يضجر من مروره قرب بيت خالده. حتى لو رآها فلن يخاف من أبيها. سريعاً تقوده قدماه إلى البركة, يراقب ما تحويه من طحالب ونباتات برية وأعشاب قد تآكلت بفعل العفونة. تلك الرائحة, ذلك الشعور الذي يأسره عندما يغطس حتى حنكه, ذلك الخرير المتقطع من المجرى الرفيع الذي يغذيها. الضفادغ الصغيرة الخضراء المبقعة باللون الأصفر التي تتناثر في كل اتجاه حال اقترابه من الحافة, الحشائش الطويلة الخضراء التي تحيط بالبركة كسورٍ طبيعي.

الصخرة المنتصبة وسطها التي يكون تسلقها صعباً عليه وعندما يستقر فوقها ينتابه الزهو.

* * * *

عندما عاد إلي البيت, تمدد على الأرض ويداه تحت رأسه مبتسماً, وهو يرى البركة قد أحاط بها سور عالٍ وباب, هو يقف أمام الباب يدخل الناس فيها بالترتيب, وكان صوت ضعيف يأتيه من الزقاق يغنون"خبرة البزون بواله الفورمنية".                                        

 

الرئيسية
Free Web Hosting